لا بد من التفريق في هذه القضية بين أمرين: مبدأ استعمال التقنية والوسائل الحديثة في العملية التعليمية، ودور كل من المعلم والوسيلة في الموقف التعليمي.
الأمر الأول لا خلاف فيه، فقد (أجريت دراسات في الدول المتقدمة حول مستوى التحصيل عند استخدام الحاسوب في العملية التعليمية، فتوصلت مجمل النتائج إلى أن المجموعات التجريبية (التي درست باستخدام الحاسوب) قد تفوقت على المجموعات الضابطة (التي لم تستخدم الحاسوب في التعلم)، وقد توصلت دراسات عربية إلى النتائج السابقة نفسها...)(1) ، ولا ينكر أحد ما للوسائل التعليمية الحديثة من أهمية وإيجابيات وفوائد، وأن استعمال الوسائل الحديثة في التعليم يجعل العملية التعليمية أكثر فاعلية وأعظم تحقيقاً لهدفها.
أما دور المعلم في الموقف التعليمي أمام الوسائل التقنية الحديثة في تعليم العلوم الشرعية؛ فلا بد قبل بيان أهميته من تذكر ما قلناه من أن العلوم الشرعية لها طبيعتها وخصائصها، وأن طلب العلم، ولاسيما في مرحلة التأسيس، يحتاج إلى دور فعال وواضح للمعلم. والعلوم الطبيعية تشترك مع العلوم الشرعية في ذلك، لكن حاجة العلوم الشرعية إلى التفاعل بين المعلم والطالب لاكتساب ملكات الفقه والنظر والتدبر أكبر وأكثر، إضافة إلى ما يقوم به المعلم من دور أخلاقي وتربوي.
وهنا يحتاج المعلم أمام وسائل التعليم الحديثة، ولاسيما فيما يتعلق بالعلوم الشرعية، إلى الدراسات والبحوث التي تحدد العلاقة بين دوره ودور الوسائل الحديثة، بحيث لا يكون استعمال الوسائل الحديثة على حساب دور المعلم، وحتى لا تطغى الوسائل الحديثة بسبب ما يواكبها من تطور وما لها من إمكانيات متقدمة ومؤثرة، ولكي يبقى دورها دائماً دوراً خادماً مساعداً في العملية التعليمية، وهذا أمر تفاوتت فيه الآراء(2) ، وهنا يطرح السؤال نفسه:
أتغني الوسائل التعليمية الحديثة بما لها من تقدم تقني عظيم وتطبيقات واسعة ومؤثرة عن المعلم؟
الوسائل التعليمية مهما تطورت لا يمكن أن تغني عن المعلم، ولا يصح أن يتعاظم دورها على حساب دور المعلم، وهذا ما يؤكده كثير من المتخصصين، (حيث لا يمكن تصور موقف تعليمي بدون معلم مهما حدث من تطور وتقدم علمي وتكنولوجي، فالمعلم هو المرشد والموجه، حتى لو كان المتعلمون يمارسون إحدى طرق التعلم الذاتي فتحت إشراف المعلم وتوجيهه، بل هو الذي يدفع التلاميذ إلى هذه الطريقة أو تلك لما يراه من فائدتها بالنسبة لهم بالقدر الذي يراه مناسباً)(3) ، ويقول الدكتور علاء زايد: "يخطئ من يظن أن الوسائل التعليمية توضح بذاتها، أو أنها تغني عن المدرس، بينما الواقع أنها لا تغني عن المدرس، وإنما تعينه على أداء مهمته، بل يُنتظر أن تزيد أعباءه، ولا يُنتظر أن تحل محله..."(4). يقول صاحبا كتاب (الأصول الاجتماعية للتربية): "يمكن القول إنه مهما تطورت تكنولوجيا التربية واستُعملت وسائل أخرى متقدمة؛ فلن يأتي اليوم الذي يوجد فيه شيء يعوض تماماً عن وجود المعلم"(5).
وسأعرض هنا جانبين لا يمكن تعويض دور المعلم فيهما بالوسائل الحديثة:
1- اعتماد العلوم الشرعية، ولاسيما علوم القراءات، على المشافهة المباشرة بين المعلم والطالب: في الماضي كان طالب العلم الشرعي بين أمرين، بين أن يتلقى العلم من أفواه العلماء وعلى أيديهم، مهما اختلفت طرق المعلم ووسائله في التعليم، وبين أن يتلقاه وحده من الكتب والصحف، والطريقة التي يعتد بها العلماء هي الأولى، أما الثانية فلا يعتدون بها في تأسيس العلماء؛ لما في ذلك من آفات كثيرة، أخطرها سهولة الوقوع في انحراف الفهم؛ لأن في العلم غوامض لا يمكن لمبتدئ في الطلب أن يصل لفهمها وحده، ومشتبهات لا يقدر على السلامة من الضلال فيها بمفرده.
قال الخطيب البغدادي: الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالماً، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماع من القارئ قارئًا، إنما يسمى مصحفياً. وفي فتاوى العلامة ابن حجر أنه سئل عن شخص يقرأ ويطالع في الكتب الفقهية بنفسه، ولم يكن له شيخ، ويفتي، ويعتمد على مطالعته في الكتب، فهل يجوز له ذلك أم لا؟ فأجاب بقوله: "لا يجوز له الإفتاء بوجه من الوجوه؛ لأنه عامي جاهل لا يدري ما يقول، بل الذي يأخذ العلم عن المشايخ المعتبرين لا يجوز له أن يفتي من كتاب ولا من كتابين". بل قال النووي - رحمه الله تعالى -: "ولا من عشرة... بخلاف الماهر الذي أخذ العلم عن أهله وصارت له فيه ملكة نفسانية؛ فإنه يميز الصحيح من غيره، ويعلم المسائل وما يتعلق بها على الوجه المعتد به..."(6).
قال بعضهم:
من لم يشافه عالماً بأصوله
فيقينه في المشكلات ظنون
وقيل: من دخل في العلم وحده خرج وحده، وقيل من أعظم البلية تشييخ الصحيفة. وقال الأوزاعي: كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله. وفي رواية: كان هذا العلم شيئاً شريفاً إذا كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله. قال أبو حيان:
يظن الغمر أن الكتب تهدي
أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها
غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ
ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى
تصير أضل من توما الحكيم
ولذلك رأى العلماء أن التلقي المباشر أساس في طلب العلم؛ لما فيه من فوائد لا تتوافر في غيره من طرق الاتصال، كالكتاب والرسائل قديماً، والوسائل الإلكترونية حديثاً. وقد كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يتلقى العلم عن جبريل _عليه السلام_، قال – تعالى -: "عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" [النجم: 5]، وكان جبريل _عليه السلام_ يعارض الرسول _صلى الله عليه وسلم_ القرآن كل عام في شهر رمضان، وتلقى الصحابة العلم مشافهة من النبي _صلى الله عليه وسلم_، وتلقى الصحابة بعضهم من بعض مشافهة. ولم يزل هذا دأب العلماء الراسخين في بدء طلبهم للعلم، يتلقون العلم مشافهة من العلماء، وحينما تقرأ ترجمة لعالم من العلماء تجد فيها فقرتين الأولى لذكر شيوخه الذين تلقى عنهم وسمع منهم، والأخرى لتلامذته الذين تلقوا عنه.
وفي التلقي المباشر فوائد مهمة في تأسيس طالب العلم؛ منها أنه يوفر الوقت والجهد باكتساب خبرات وملكات من المعلم، وأنه من أسباب الرسوخ في العلم، والعمق في الفقه، ومنها أنه يدعم عملية الحفظ، فحفظ الإنسان ما يسمعه، ولا سيما السماع المباشر، أكثر من حفظه مما يقرؤه، وهذا شيء عُرف بالتجربة، فقد (أظهرت إحدى نتائج التجارب التي أجريت أن اكتسابنا المعرفة في حياتنا يكون استخدام الحواس الخمس فيه بالنسب الآتية: 75 ٪ عن طريق البصر، 13 ٪ عن طريق السمع، 3 ٪ عن طريق لشم، 6 ٪ عن طريق اللمس، 3 ٪ عن طريق الذوق، كما أظهرت تجارب أخرى أننا نتذكر ونستبقي المعارف بالنسب الآتية: 10 ٪ مما نقرأ، 20 ٪ مما نسمع، 30 ٪ مما نرى، 50 ٪ مما نسمع ونرى، 70 ٪ مما نقول، 90 ٪ مما نعمل)(7).
فالمشافهة المباشرة هي (أقوى وسيلة للاتصال ونقل المعلومة بين شخصين، ففيها تجتمع الصورة والصوت بالمشاعر والأحاسيس، "حيث تؤثر على الرسالة والموقف التعليمي كاملاً وتتأثر به، وبذلك يمكن تعديل الرسالة وبهذا يتم تعديل السلوك ويحدث النمو (تحدث عملية التعلّم)")(Cool.
وقد يقال إن التلقي عبر الوسائط، سواء المتزامنة أو غير المتزامنة، يغني عن التلقي المباشر من المعلم، لما فيه من مميزات توفير الوقت وتنظيمه، والاستفادة القصوى منه، ومراعاة أوقات المتعلمين، واستيعاب عدد كبير من المتعلمين، وإمكانية اختيار أمهر المعلمين وأبرزهم لإلقاء الدرس.
وأقول مهما قيل من فوائد للوسائط التي تتيح التلقي غير المباشر من المعلم، كالقنوات الفضائية، أو الشرائط المسجلة، أو الأقراص المدمجة، والوسائط المتزامنة، فهناك فرق بين السماع منها والسماع المباشر من المعلم، فالسماع المباشر أجمع للفكر، وأبعد عن الغفلة، لما فيه من إحساس بالمتابعة والمراقبة، وتوقع السؤال والمناقشة والحوار، فمع إقرارنا بإيجابيات الحاسوب وتطبيقاته الكثيرة لا نشك أن (هناك سلبيات لاستخدام الحاسوب في التعليم من أهمها افتقاده للتمثيل (الضمني) للمعرفة. فكما هو معلوم فإن وجود المتعلم أمام المعلم يجعله يتلقى عدة رسائل في اللحظة نفسها من خلال تعابير الوجه ولغة الجسم، والوصف، والإشارة، واستخدام الإيماء، وغيرها من طرق التفاهم والتخاطب (غير الصريحة)، والتي لا يستطيع الحاسوب تمثيلها بالشكل الطبيعي)(9).
إن الإقلال من أهمية اللقاء المباشر بالمعلم ودوره، وزيادة الاعتماد على الوسائل الحديثة في عملية التعليم، قد يؤدي إلى القفز مباشرة بالمتعلم إلى ما يسمى بـ (التعلم الذاتي)(10)، والتعلم الذاتي لا بد فيه من مرور الفرد بمرحلة من الإعداد يبقى فيها تحت التوجيه والإشراف حتى يتمكن من القيام به – هذا أولاً-، وثانياً التعلم الذاتي وحده لا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه لتخريج المتخصصين والعلماء، ولكنه وسيلة مهمة وفعالة لمن أراد الارتقاء بمستواه العلمي بعد إتمام المراحل التعليمية التأسيسية في التعليم على يد المعلمين والأساتذة والعلماء؛ حيث يكون الفرد قد كون في نفسه الخصائص اللازمة لعملية التعلم الذاتي(11).
2- الجانب التربوي: لما كانت العلوم الشرعية -كما سبق - لها خصوصية في التعلم والتعليم، وأنها ليست علماً فقط إنما هي علوم تحمل الصفتين العلم والتربية (التزكية)؛ فإن الوسائل التعليمية لا يمكن أن تعوض ما يملكه المعلم من عناصر تربوية في تعامله المتزامن المباشر مع المتعلم في التربية؛ لأن هدف العلوم الشرعية وغايتها هو العمل، والعمل يتأصل في النفوس بالقدوة عبر المعلم، قال ابن الجوزي – رحمه الله - في (صيد الخاطر): "ولقيت عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراًَ على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل"(12). وقال: "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته..."(13).
كما أن للتعامل المباشر مع البيئة المحيطة دوراً في التربية، وهو ما يتوافر في مجامع العلم والمدارس وحلقات العلم والمحاضرات في المساجد، حيث يوجد زملاء الدراسة، وتتعدد المواقف التربوية جراء التفاعل المتزامن في الموقف التعليمي بين المعلم وتلاميذه، وفيما بين التلاميذ، ولا يتوافر ذلك في وسائل التعليم الإلكترونية عبر الإنترنت والتعلم عبر الحاسوب، وفقدان هذه العناصر المهمة من عناصر التربية؛ يجعل طالب العلم عرضة - أكثر من الطالب الذي يتلقى على يد العلماء - لآفات طلب العلم كالكبر والغرور، وعدم الإخلاص، والاعتداد بالرأي والتعصب.
القضية الرابعة: العلوم الشرعية في التعليم غير المتزامن:
زادت أهمية التعليم غير المتزامن واشتدت الحاجة إليه مع تطور العلوم المعاصرة واتساعها، وصارت الدول المتقدمة تعتمد عليه في تطوير مهارات الباحثين والعاملين في الدولة، حيث إنه من أفضل وسائل ما يسمى بالتعليم المستمر. وقد يصلح التعليم غير المتزامن فيما بعد مرحلة التأسيس، حيث يساهم في تطوير المهارات وزيادة العلوم والثقافة، ولكنه لا يصلح في مرحلة التأسيس، حيث يفتقد التعليم غير المتزامن لعناصر تعليمية كثيرة كما ذكرنا في القضية الثانية والثالثة، كما أن هناك جوانب أخرى، وخصوصاً في مجال العلوم الشرعية، لا يصلح فيها عدم التزامن بالنسبة إلى طالب العلم المبتدئ.
ومن ذلك:
- حاجته إلى التعديل المباشر في طريقة الشرح، حيث لا تتوافر في التعليم غير المتزامن إمكانية تعديل طريقة الشرح في وقت التعليم نفسه إذا لزم الأمر، أو الاكتفاء بمثال أو زيادة الأمثلة أو تغيير الأمثلة التي كانت مقررة.
- مراعاة الخصائص الذهنية والنفسية للمتعلمين أثناء الشرح، وضبط طريقة الشرح وطريقة استعمال الوسائل التعليمية بما يتناسب ومستوى المتعلمين، وهذا لا يمكن الوصول إليه دون متابعة مباشرة آنية من المعلم.
- تنمية الدوافع لدى المتعلم، حيث يوفر التواصل المتزامن المباشر في الفصل بين المعلم والتلاميذ بيئة مهمة لتنمية دوافع التعلم، لا توفره الوسائل الحديثة وحدها.
- متابعة التوجهات والأفكار الطارئة أولاً بأول، وهو أمر مهم في مجال تعليم العلوم الشرعية وتعلمها، والقيام بالتصحيح والتقويم المناسب.
خلاصة الرؤية:
- لا ينبغي أن نقع تحت تأثير إيجابيات التقنيات التعليمية الإلكترونية ونغفل عن آثارها السلبية والعمل على معالجتها.
- ينبغي أن تراعي الدراسات الخاصة بالتعليم الإلكتروني طبيعة العلوم الشرعية وخصائصها.
- الوسائل الإلكترونية لا يصح أن تكون وحدها طريقاً للتعلم وتخريج المتخصصين في العلوم الشرعية.
- الاهتمام بتوجيه الطلاب الذين يستعملون أسلوب التعليم الإلكتروني إلى استخدام المراجع المطبوعة في بحوثهم، ويمكن اشتراط ذلك في بعض البحوث لتدريب الطلاب على البحث الأصيل والقراءة، ووضع البحوث المكتوبة بخط اليد موضع الاهتمام.؛ لما لذلك من فوائد جمة.
- لا بد من تأكيد دور المعلم وتعزيزه مهما تطورت الوسائل التعليمية وظهرت أنواع جديدة، وخصوصاً مع التوجه الحثيث نحو التعليم الإلكتروني، وأن تكون الوسائل الحديثة أداة في يد المعلم أو تحت إشرافه، يوجهها ويتحكم فيها بما يتناسب وطبيعة العلوم والمرحلة والمتعلمين.
- يمكن للمعاهد والجامعات التي تعتمد على أسلوب (التعليم عن بعد) أن تعوض بعض ما تفتقده من مميزات التعليم المتزامن بأن تقيم لقاءات علمية دورية بين الطلاب والأساتذة والعلماء.